
بقلم الأديب طارق رضوان
شيئًا فشيئًا تحولتُ إلى مأساة للآخرين. كل من صادفني وقع في هوّة الضياع، تاه في ثقبي الأسود، وغاصت أقدامه في رمالي المتحركة، وخرج منهكًا حائرًا يلعن نفسه والعالم وربما يلعنني.
ما زلتُ كائنًا لم يتمايز بعد، لا أملك وجهًا تمسح عليه، ولا يدًا تمسك بها، ولا عقلًا تخاطبه، ولا قلبًا تحتله، ولا روحًا تناجيها. ما زلتُ شيئًا أشبه ما أكون باللا شيء. تراكمات من الحيرة وضلال العيون والنظرات التائهة. ما زلتُ أطرق برأسي حين أسير. ما زلتُ إلى الآن في رحم الحياة… لم أولد بعد!
أريد أن أعلق لافتة على مدخل طيفي تقول: “احذر… أنا مسافر. لا تتعلق ببقايا إنسان، هنا لا توجد جوائز ولا نهايات سعيدة. هذا الطريق ليس مسدودًا فحسب، بل هو ليس بالطريق أصلاً.”
لا كآبة في هذه الحروف، أكرر، هي صبغة الأيام ليس إلا. هل تعلم ما هو أقسى ما في هذه الحياة؟ أنها منحةٌ لا تُرد. لا تملك أن تتخلى عنها وتقول: “لم أعد أريدها، سأختار الموت.” أنت جاحدٌ إذاً. هذه معركةٌ أقحمت فيها من غير إرادة واختيار. وعليك أن تكمل حتى النهاية. لا مجال لضعف أو يأس أو هزيمة. كل ما في هذا العالم ممزوج بقسوة، برعب لا يحتمل.
في كل ليلة لديّ تحدٍّ حقيقي يتجدد. في كل ليلة أغلق الأبواب، أنزل النوافذ. أختار لحظة هادئة وأهرب إلى الفراش. وفي كل ليلة تزورني أطياف الماضي كلها لتعلن احتفالها الصاخب فوق رأسي. أتقلب في فراشي الكئيب ساعات طوال. حتى ضربات قلبي، حتى صوت نبضي يصبح كفيلاً بإزعاجي وطرد النوم من عينيّ.
كل صدمة تشبه كيسًا على ظهري. وكلما امتلأ هذا الكيس، قيد نطاق حركتي ومنعني من المشي، ويقلل من أدائي، أدائنا العقلي وأدائنا العاطفي.
يحدث كثيرًا أن تصفعك الحياة بقوة فترتطم بالأرض كأنما سقطت من قمة جبل، تنجو عظامك من التهشم، لكن آمالك التي عانقت السماء لفترة تتحطم دون سابق إنذار، وتتناثر الشظايا في كل مكان. لا صوت يُسمع سوى أنين قلب أنهكه الحمل ولم يعد قادرًا على الاستمرار. في تلك اللحظة تفقد الإحساس بالعالم الخارجي، ومع كل قطرة دم تصل إلى أعضاء جسمك، تتدفق سيول من الوجع والأسى. تضع يدك على أنفك مراقبًا توالي الشهيق والزفير، ثم تسأل مستغربًا: “هل ما زلت حقًا على قيد الحياة؟”. تقف مصدومًا أمام المشهد، تائهًا بين خوفك وكبريائك وغضبك، تراهم يسقطون واحدًا تلو الآخر، لتختار الصمت أو ربما البكاء حين يعجز الكلام.
تختلف السيناريوهات والنتيجة واحدة: خيبة أمل تهزم كل التوقعات، وروح تُقذف بها رياح الألم، والأكثر قسوة ألا تملك رفاهية إظهار هشاشتك للملأ، فتخلد لعزلة فؤادك وحيدًا. تتلوى في دوائر اليأس، تدمن عادة التحديق في اللا شيء، تنطفئ رغبتك في الحياة، تنعزل بذهنك المزدحم بأسئلة لا تملك جرأة الإجابة عنها، تلوم الإنس والجن والشمس والحجر والشجر، وتلعن حظك البائس مرارًا وتكرارًا، ثم تدفن رأسك تحت الوسادة لساعات، ظنًا منك أن غيمة الحزن قد تمر بسلام كلما طال نومك. تتمنى الاستيقاظ على صدى معجزة، والحقيقة أنك أنت المعجزة؛ أجزاءك الصغيرة المحطمة، بقايا أحلامك، مشاعرك المبعثرة، وروحك الباهتة هي جيشك الوحيد أمام كل هذا الخذلان.
الفرح نشوتنا المنشودة، تُصالحنا مع القدر الذي يعبث دومًا بأوراقنا، يصفعنا بما لا يمكننا تخيل حدوثه، ويباغتنا بقدرتنا الخارقة على تخطي آلامه، فنضحك من قهرنا، ونستسلم للقوة التي لم نعي مصدرها، كيف انبثقت فينا من لحظة ضعف ظنناها قاسية، لكنها عوضًا عن أن تكسرنا، تلهب عزيمتنا على الانتصار لذواتنا، لأنها حقيقتنا الصادقة فينا.
الحزن والانكسار يسمحان لنا باكتشاف كنه الحياة، كونها مبنية على الثنائيات المتضادة، فلا سعادة دائمة ولا حزن أبدي.
الانكسار يجعلنا نسترد إنسانيتنا في حقنا في البكاء بعفوية، بحرقة تدمي القلوب، لكنها تؤجج صراعًا داخليًا بين الاستسلام والمقاومة، بين الذل والكرامة، بين الاحتراق قهرًا والانفلات من عنق الزجاجة، نجالس الجراح، نحاورها، نبحث عن مكامن الخلل فينا، في عمق الأزمات نفك ألغاز الفشل ونؤسس لعلاقة جديدة مع الأمل، نتطلع إليه بتحدٍ لأنه ملاذنا الوحيد للخلاص، للخروج من متاهات الشك والتيه، لا مفر من المحاولة مرات متتالية، فلا سبيل أبدًا إلى التراجع أو الالتفات إلى الوراء، وإلا فالفشل مصيرنا المحتوم.
في كل مرة نتجاوز تعثراتنا، نتساءل إن كنا فعلاً نحن من مررنا بكل تلك الخيبات والإخفاقات، ندرك كم كنا ظالمين لأنفسنا، مستهترين بقوة الصبر في دواخلنا، يوم احترقنا ألمًا، لعناه لأنه أصر على خذلاننا بتجاربه المرّة، تلك التي أكسبتنا مناعة ضده، جعلتنا أقسى من أن نقهر، وأصلب من أن ننهار لخيانة صديق أو خذلان حبيب أو فقدان عزيز.