
ESLAM NOUR
أوروبا أمام واقع جديد: هل لا تزال الولايات المتحدة شريكًا موثوقًا في الناتو؟
تواجه أوروبا اليوم واقعًا جديدًا يثير القلق، إذ لم يعد من المسلّم به أن الولايات المتحدة تبقى الركيزة الأساسية لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو التحالف العسكري الذي ضمن أمن القارة العجوز لما يقارب الثمانية عقود.
تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التي أبدى فيها عداءً واضحًا للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وميله العلني نحو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى جانب تشكيكه في التزام بلاده بالدفاع عن حلفاء الناتو ما لم “يدفعوا”، دفعت القادة الأوروبيين للتفكير في سيناريو كان من قبل خارج حدود التصور: هل لا تزال الولايات المتحدة شريكًا يمكن الاعتماد عليه في وقت تشهد فيه أوروبا أكبر حرب منذ أربعينيات القرن الماضي؟
ورغم هذا القلق، فإن غياب الولايات المتحدة لا يعني أن حلف الناتو عاجز. فبإمكانه الاعتماد على أكثر من مليون جندي وأسلحة متطورة من قبل الدول الأعضاء الأخرى، فضلًا عن الإمكانات الاقتصادية والتكنولوجية التي تؤهله للدفاع عن نفسه، بحسب ما يرى الخبراء.
تشير وثائق الناتو إلى أن الولايات المتحدة وألمانيا هما الأكبر مساهمة في الميزانية العسكرية والمدنية للحلف، إذ تساهم كل منهما بحوالي 16%، تليهما المملكة المتحدة بـ11%، ثم فرنسا بـ10%. ويرى المحللون أن سد الفراغ الذي قد تتركه الولايات المتحدة ليس أمرًا صعبًا على أوروبا.
هل أوروبا مستعدة للدفاع عن نفسها؟
يقول بن شراير، المدير التنفيذي لقسم أوروبا في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، إنه إذا توحدت الدول الأوروبية وقامت بشراء العتاد المناسب، فإنها ستكون قادرة على تشكيل “رادع تقليدي ونووي قوي” في مواجهة روسيا. وأضاف أن أوروبا تمتلك القدرة الكافية لحشد الموارد اللازمة للدفاع عن نفسها، ويبقى السؤال فقط: هل تملك الإرادة للقيام بذلك؟
هذا التساؤل بات محوريًا، خاصة أن الولايات المتحدة، عبر 14 إدارة رئاسية متتالية، من بينها إدارة ترامب الأولى، كانت دائمًا العمود الفقري لحلف الناتو.
في الحرب الباردة، شكلت القوات الأمريكية في أوروبا سدًا منيعًا أمام الطموحات السوفييتية. ومع تفكك الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، أصبحت واشنطن اللاعب المحوري في عمليات الحلف، كما حدث في البلقان في تسعينيات القرن الماضي، وفي تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا حتى وقت قريب.
لكن اليوم، بدأ بعض المحللين في القول إن التضامن بين ضفتي الأطلسي وصل إلى منعطف حاسم.
انقسام داخل الحلف
يرى دان فرايد، مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والباحث في المجلس الأطلسي، أن الخلاف العلني بين ترامب وزيلينسكي، وما تبعه من وقف للمساعدات الأمريكية لأوكرانيا، يمثل قطيعة أعمق تتجاوز أوكرانيا، وتمتد لتشمل استراتيجية الولايات المتحدة التاريخية في الدفاع عن “العالم الحر”.
أما جون لوف، المسؤول السابق في الناتو والزميل الحالي في معهد تشاتام هاوس، فيرى أن العلاقة بين أمريكا وأوروبا تشهد “كسرًا لا يمكن إصلاحه”، مضيفًا أن واشنطن باتت تنظر إلى أوروبا كمنافس لا كشريك، ما يضع التزامها تجاه الناتو في موضع شك.
بعض المسؤولين الأوروبيين باتوا يتساءلون علنًا عمّا إذا كانت الولايات المتحدة قد تحولت من حليف إلى خصم في بعض الجوانب.
ناتو أوروبي بدون أمريكا؟
من جهة أخرى، يرى عدد من المحللين أن تحوّل أوروبا إلى الاعتماد على نفسها قد يكون مفيدًا. فقد كتب موريتز جرايفراث، الباحث في السياسة الخارجية، أن فقدان الثقة في التزام الولايات المتحدة قد يدفع الأوروبيين لتعزيز قدراتهم الدفاعية بشكل مستقل، ما قد يؤدي إلى “أوروبا أقوى، لا أضعف”.
ويؤيد هذا الطرح دونالد توسك، رئيس وزراء بولندا الأسبق، الذي صرح بأن أوروبا أصبحت بالفعل قادرة على الانتصار في أي مواجهة مع روسيا، سواء عسكريًا أو اقتصاديًا، مضيفًا: “كان علينا فقط أن نبدأ في الإيمان بذلك، ويبدو أن هذا يحدث الآن”.
القوة العسكرية الأوروبية
على الورق، تملك أوروبا قوة عسكرية هائلة. فتركيا، على سبيل المثال، تضم أكبر عدد من القوات المسلحة في الناتو بعد الولايات المتحدة، بنحو 355,200 جندي، تليها فرنسا، ألمانيا، بولندا، إيطاليا، المملكة المتحدة، اليونان، ثم إسبانيا.
وفيما يخص القوات البرية، تتصدر تركيا بعدد كبير من الجنود العاملين في الخطوط الأمامية، تليها فرنسا، إيطاليا، اليونان، وباقي الدول الأوروبية الكبرى.
أما الولايات المتحدة، فكان لديها نحو 80,000 جندي متمركزين في قواعد بأوروبا حتى منتصف عام 2024، معظمهم في ألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة.
من ناحية التفوق النوعي، تمتلك بريطانيا حاملتي طائرات حديثتين قادرتين على إطلاق مقاتلات F-35B الشبح، بينما تملك فرنسا وإيطاليا وإسبانيا سفنًا قادرة على إطلاق طائرات مقاتلة أيضًا. كما أن فرنسا وبريطانيا تحتفظان بترسانة نووية وقوات غواصات مزودة بصواريخ باليستية.
وبحسب تقرير التوازن العسكري 2025، تملك الدول الأوروبية المشاركة في الناتو نحو 2000 طائرة مقاتلة وهجومية، بالإضافة إلى دبابات ليوبارد وتشالنجر المتقدمة، وصواريخ كروز مثل “سكالب/ستورم شادو”، التي أثبتت فعاليتها في أوكرانيا.
وعلى صعيد الإنتاج الدفاعي، بدأت أوروبا بالفعل في تنويع مصادرها من الذخائر والمعدات، متجهة نحو التعاون مع دول مثل البرازيل وإسرائيل وكوريا الجنوبية.
حتى في حال انسحاب واشنطن، ستظل قواعدها الـ31 المنتشرة في أوروبا قائمة، ويمكن للدول المستضيفة الاستفادة منها في غياب الأمريكيين.
ما الذي يحمله المستقبل؟
يرى البعض أن تهديدات ترامب قد تكون مجرد وسيلة للضغط على الحلفاء لزيادة إنفاقهم الدفاعي، مثلما حدث في السابق حين ناقش الرئيس الأمريكي السابق إمكانية سحب قوات بلاده من كوريا الجنوبية أثناء مفاوضاته مع زعيم كوريا الشمالية.
لكن، رغم فشل هذه المفاوضات، عادت الولايات المتحدة إلى التزاماتها الأمنية المعتادة في شرق آسيا.
ويعتقد الخبراء أن السيناريو ذاته قد يتكرر في أوروبا: حتى لو انسحب ترامب من بعض الالتزامات، فقد يتراجع إذا شعر بأن بوتين يحاول استغلاله.
كما قال بن شراير: “إذا حاول بوتين استغلال الرئيس الأمريكي أكثر من اللازم، فقد يدرك ترامب ذلك حتى هو نفسه”.