بقلم: نجمة عمر علي
ننشر إليكم الجزء الثالث من قصة الكاتبة نجمة عمر علي الزهرة الجبلية، قراءة ممتعة:
غفى الأمير وهو ينتظر بزوغ القمر من جديد… شعر بيد تربت على كتفه فانتفض كالملسوع، كانت الزهرة الجبلية قد عادت إلى شكلها البشري. كان القمر قد بزغ ولفح بتلات الزهرة البيضاء، أو بالأحرى قد طبع قبلات الانتظار على وجنتي الأميرة… أميرة سماء الصحراء البعيدة.
اقتربت من الشرفة وقد غطت خيوط القمر وجهها، وقالت:
“أنا في الحقيقة أميرة الصحراء، لكن ليست صحراء البشر.”
- “ماذا تقصدين؟”
- “صحراء مملكتي سماء سوداء تشع نجوماً. أنا نجمة من مجرة غبار النجوم، أنا جارة القمر، النجمة الثابتة، واسمي ‘فينوس’. وقعت من السماء على سفح جبل… كان القمر يروي الصخرة بدموعه فنمت لي سويقة انغرست في الصخرة المتفجرة شعوراً. كنت أميرة العلياء أعيش في سلام في مجرتي المقمرة، حتى عشقني فارس كان يتردد على الجبل في الليالي المقمرة، كان يشدو بكلام جميل لا نفهمه نحن النجوم، وكأنه يرتل تراتيلاً غير آثمة أو يلقي بتعويذة العشق على السماء…”
وعم الصمت…
- “نعم، أكملي…”
- “لكن فضولي دفعني لفهمها، وطلبت العون من ساحرة الغيوم. لم يكن همي سوى فك رموز تلك الكلمات التي يقولها رافعاً نظره للسماء. كنت أرى لمعة عجيبة في عينيه حتى ظننته نجماً من كوكبي يسكن الجبل. وزاد شوقي لأحط فوق رحيق قلبه لأرى غبار النجوم فيه. وزاد الزمان ولهي وكأنني بتّ له العاشقة… وتوالت الليالي وأنا أسمع تلك التراتيل حتى حفظتها، لكن بلا فهمها ولا إدراكها، وكنت النجمة العنيدة… طلبت الساحرة شعاعي ثمناً لفهم لغة الإنس، وفعلت، وصرت بلا شعاع… فقط كتلة من نور أسرقه من القمر. وفهمت تلك التمتمات، وعشقت تلك الكلمات. لكن طمعي زاد وتمنيت أن أقرأ الكلمات وأشم رائحة الحبر التي أسرت كل النجوم، وأقرأ عينيه، وأكتب… وأكتب مثل بني الإنس حروفاً منغمة أسيطر بها على كل من يسكن الأرض والسماء.”
كان الأمير صامتاً مذهولاً وصاح:
- “لكن… لقد كنت أنا… ذلك الذي… من كان يتردد على الجبل. أنا من كنت في الليالي المقمرة أكتب الشعر لفينوس السماء… وأنا الذي كنت أثقب الصمت شوقاً لأقطف تلك النجمة التي سلبت بجمال نورها وشعاعها كل قلوب البشر.”
فجأة، عم الصمت…
وبزغ الفجر على عجل… اختفى القمر، فوقعت الأميرة أرضاً وعادت زهرة تسكن الأصيص. عندها فهم الأمير الشاعر أنها تتحول إلى إنسية من غبار النجوم كلما بزغ القمر وكلما أطل الليل. كان يراقب جمالها وهي زهرة نائمة ولا ينبس بحرف. كانت روحه تلفها من كل جانب وقلبه ينطق شعوراً يتفجر له الصخر دموعاً. امتزج الواقع والخيال وصارت الأحلام أمنيات. واختارت روحه طريق السفر بعيداً ليعانق روحاً في السماء.
نسي الأمير كل ما يدور حوله في العالم البشري وانتشر انتشار عطر النرجس في الهواء… كان لكل شيء لغة مختلفة، لغة من الصمت والحبور. جسم شفاف كالماء الزلال وتنساب من بين أصابعه رمال ناعمة تشبه الغبار. كانت هباب الزمن… كانت الساعات والليالي المظلمة الباردة وقتاً يضيع منه كل شيء. كان الزمان يتبدد، يتفتت، ينسحب مع كل دورة لعقارب الساعة. كان الوقت يندثر كالرمل…
اكتشف أن القلب الذي يسكن القفص سجين مذ كتب أول سطر في الحب. كان يبحث عن معنى لوجوده… لحياته… عن سبب يجعل قلبه ينبض وعن طريق يتبعه دمه. كان وحيداً بلا حب يكون له الإكسير وجرعة الأكسجين. كان يتردد على الجبل كلما لاح القمر في الأفق ويكتب بعضاً من الكلمات ويراقب شعاع النجمات، ولكن نجمة واحدة فقط أسرت لب فؤاده. كان ينطق لها المفردات غير المكتوبة. كان يكمل القصيدة داخله فلا يسمعها أحد، لكن تلك اللغة، لغة الروح، كانت قد سمعتها تلك النجمة “فينوس”. كانت كالرملة المتفردة تسمع لغة الروح لزائر الجبل. كانت القريبة جداً من جدار الروح… شفيفة الروح… بهية المنظر… كانت أسطورة السماء… أميرة الصحراء الضائعة… أميرة عشقت لغة الروح فلُعنتها الأرض وصارت غباراً من النجوم… حملتها الرياح في ليلة مقمرة نحو السماء فلقفها شعاع القمر لتصبح جارته.
تلك هي حقيقتها… أميرة التراب صارت نجمة في السماء. وكتب التاريخ عنها لعصور وتناقلت القراطيس والأقلام حكايتها وصارت مبتغى كل الحروف وكنز القائلين قولاً منظوماً، وغنيمة صبر لكل من يبحث عنها في رحاب السماء. ولكن لغة الروح فقط كانت من ستدلهم على مكانها، وما نطق تلك اللغة غيره.
ومن بين الشعاع المنتشر، وإثر تلك القراءة الصامتة للورق، كانت السماء قد دونت أول قصة حب عجيبة بين شاعر ونجمة بعيدة. كانت لغة الروح وحدها تعيش الحقيقة…
وكانت لعبة القدر… لعبة الكتابة التي حاولنا بها تكفين أوجاعنا واختزال الواقع المنهك حيث تعبث بنا الوجوه العابرة…
وها كل من عشق القمر يكتب باتساع القلب وضيق الصدر وخنقة العبارات وغصة الحلق وفرحة الروح… وكأننا في اللحظات الأخيرة… لحظة ثورة الروح الأخيرة. اسم سرقه القلب عمداً من شادي الحروف وكأنه الوطن المبتور المغمور في الحب المفقود. وقت الحرب نحكي كثيراً عن الحب ونعيشه قليلاً…
يمكنكم قراءة كل ما كتبته الكاتبة نجمة عمر علي عبر جريدة عيون المجلس من خلال الرابط