عيون المجلس
يحكى قديماً أن تاجراً بخيلاً ليس لديه أحد سوى ابنته الشابة، وكانت على قدر عظيم من الجمال، لذا تسابق الشباب على خطبتها. لكن الأب كان يطالب بمهر باهظ جداً لها، وكان المهر يزداد بضعة دنانير في كل مرة يأتي خاطب جديد.
فسألوه عن سبب ذلك، فأخرج لهم دفتراً ضخماً وأخبرهم أنه دوّن في هذا الدفتر كل مصاريف ابنته من طعامها وشرابها وملبسها ودوائها وحاجاتها المختلفة منذ ولادتها إلى هذه اللحظة. لذلك، يتوجب على من يريد الزواج بها أن يعوضه عن تكاليفها وما صرفه عليها طوال حياتها. ثم قال لهم: “أنا أشقى وأربي، ثم يأتي سعيد الحظ ليأخذها بين ذراعيه هكذا مقابل مهر تافه؟ كلا ثم كلا! يجب أن يغطي المهر كل درهم صرفته عليها خلال تلك السنين.”
وأمام إصرار الوالد، انسحب جميع الخاطبين. فجاءت ابنته وقالت: “إنك يا أبي بذلك تجعلني كسلعة من سلعك، تبيعني وقتما تشاء طالما تقبض الثمن.”
قال الأب: “هذا غير صحيح. ففي تجارتي عندما أبيع سلعة ما، فأنا أكسب ثمن كلفتها زائداً الربح. أما في حالتك، فأنا لم أطالب بالربح مطلقاً، كل ما أريده هو ثمن الكلفة فقط! صدقيني.”
هزت الفتاة رأسها باستياء وقالت: “لا فائدة…” ثم أسرعت باكية إلى غرفتها.
بعد فترة من انقطاع الخطّاب، حضر أخيراً شاب وسيم وتقدم لخطبة الفتاة. فقال له أبيها: “هل تعرف يا هذا مقدار مهرها حتى تأتي إلى هنا؟”
أجاب الشاب: “نعم يا سيدي، فلقد أصبح ذلك المهر حديث البلد.”
قال الأب: “إذن ينبغي أن تعرف أن المهر قد زاد عشرين ديناراً منذ قدوم الخاطب الأخير قبل نحو شهر.”
أجاب الشاب: “بالفعل يا سيدي، فلقد أجريت حساباتي وأنا هنا لأخبرك أني موافق على المهر الذي تطلبه، ولكني سأدفعه لك بالتقسيط. فأنا أعمل بوظيفة جيدة وسأعطيك نصف مرتبي، والنصف الآخر أعيش به مع ابنتك زوجتي المستقبلية إن شاء الله. وعلى هذا المنوال، سأتمكن من سداد مهرها بعد ثمان سنوات. ها ماذا قلت يا عمي؟”
فكر التاجر البخيل مع نفسه وخشي ألا تأتي فرصة أخرى كهذا الشاب، فأجاب: “مادام الدفع بالتقسيط وليس حاضراً، فأنا مضطر أن أرفع السعر النهائي. وهذا يعني أن عليك أن تدفع لي نصف مرتبك لعشر سنين وليس ثمان فقط.”
أطرق الشاب برأسه لحظات ثم قال: “موافق. ولكي تتم هذه الصفقة، يجب على كلانا أن نوقع على هذه الوثيقة التي تنص على أني ملزم بدفع ما بذمتي من قيمة المهر، وأنه بعد سدادي لمدة الرهن فإن السلعة -أي ابنتك المحترمة- ستكون ملكاً لي ومن حقي.”
أخرج الشاب ورقة موقعة من قبله فأمعن فيها الوالد جيداً، ثم قام بتوقيعها وحضر أيضاً بعض الشهود من التجار المعروفين ووقعوا على العقد.
وهكذا تم توقيع العقد. وبعد الزواج، كانت الابنة تزور والدها باستمرار وتقوم بخدمته وتطبخ له الطعام الذي يحبه وتعمل على تسليته والترفيه عنه. واستمرت على ذلك طوال عشر سنوات لم تنقطع عن زيارته ولا أسبوعاً واحداً، بناءً على طلب زوجها.
فلما انقضت مدة الأجل، فوجئ الأب بانقطاع زيارة ابنته له. فافتقد رفقتها واستئناسه بها. ومرت الأسابيع ثم الشهور دون أن يعرف خبراً لها. فساءت حالته وتردى وضعه المعاشي، فأخذ يلهج بذكر ابنته ويضج بشوقه إليها. وكان نادماً ندماً شديداً على تفريطه بها. فأخذ يجول في الطرقات كالمجنون بحثاً عنها، حتى اهتدى إلى منزل زوجها بعد عناء. فطرق الباب ففتح له زوجها قائلاً: “نعم، ماذا تريد؟”
قال الأب: “يا بني، أنا والد زوجتك. ألم تتعرف إلي؟”
قال الزوج: “بلى، لقد عرفتك. ماذا تريد؟”
صدم الوالد المنكوب من هذا الموقف وتجاهل زوج ابنته له. لكنه تحامل على مضض وقال: “أريد أن أرى ابنتي… ولو للحظة. أرجوك… بل أتوسل إليك.”
قال الزوج: “آسف يا سيدي. تعلم أن بيننا عقداً، وقد أصبحت ابنتك بموجبه ملكي لأنك بعتها لي بعد أن دفعت لك مبلغاً هائلاً. لذا ليس لك الحق بعد الآن بالمطالبة بها أو رؤيتها. بل إن مجرد وقوفك على بابي يعتبر إخلالاً بالاتفاق. انصرف الآن وإلا استدعيت الحرس.”
بكى الأب على باب زوج ابنته وقال: “لا أريد نقوداً بعد الآن. سأعيد إليك كل مالك الذي أخذته مني، ولكن اسمح لي برؤية ابنتي مجدداً.”
قال الزوج: “آسف يا سيدي. الاتفاق قد تم ولا رجعة فيه. ولكن إذا أردت عمل اتفاق آخر، فسأقول إنه يمكنك استعادة ابنتك مقابل ضعف المبلغ الذي دفعته لك.”
سكت الأب لحظة ثم قال: “أنا موافق. سأدفع لك ما تريد.”
وهنا أخرج الشاب ورقة وقال: “إذن تعال لنوقع عقداً جديداً تدفع لي بموجبه ضعف المبلغ الذي قبضته مني مقابل إلغاء العقد السابق وعودة ابنتك لتزورك من جديد.”
قام الاثنان بتوقيع العقد، وشهد بعض الجيران على ذلك. تلاها أن دخل الأب أخيراً وقابل ابنته، فاستقبلها بين ذراعيه وقبلها بين عينيها وبكيا معاً. ثم اعتذر منها على صنيعه بها وبالغ في الاعتذار. فقبلت ابنته يديه وقبلت اعتذاره. وهنا دخل زوجها وقال: “لقد أظهرت يا عماه ندماً حقيقياً على ما صنعت. لذا…”
أخرج العقد الجديد وقام بتمزيقه أمامه، ثم أضاف: “اعلم يا عمي أن البنات لسن سلعاً تباع وتشترى، بل هن ودائع الرحمن ونِعَمه إلينا… نحوطهن بأعيننا ونصونهن بقلوبنا لنحظى برضى الله ودوام توفيقاته علينا.”
انتهت القصة ولم تنتهِ العِبَر.