بقلم: نجمة عمر علي
كان يسير بخطوات سريعة في تلك الطريق المزدحمة، حاملاً حاسوبه ومجموعة من الأوراق المختومة. كان مثقلاً بالقضايا العالقة، يسابق الوقت ليصل إلى تلك القاعة الكبيرة حيث يصدر آخر قرار.
كانت وجوه المارة تراقبه بتمعن وفضول، فقد كان ذلك الوسيم الغارق في بذلة أنيقة وربطة عنق سوداء. كان فخم الحضور كما يصفه كل من التقاه، خصوصاً عند رصيف المقهى حيث تمسك بيده وتتجهان نحو المكتبة حيث كل الكتب المنسية. توشوش ضاحكة، تكسر قانون الصمت في المكتبة العمومية، بينما يرمقها بعين ثاقبة تحفظ تفاصيلها المقلقة.
كان يخاف جموحها مع الزمن، وكانت هي عنيدة جداً، لا تصغي لصوته الذي يصرخ بحبها. كانت تشبه عبث الطفولة، لا تعبث بصمته ولا تنبش فصول ذاكرته، فقط تنتظر منه اعترافاً. انتظرت الحرب التي يخوضها لأجلها. كانت بلا وطن ولا خيمة، ولا مثير مقرر، ولا شيء يجعلها تتنفس الحرية.
كانت مكبلة بأصفاد العادات والتقاليد والجروح المختومة بختم من الرصاص الثقيل. السماء رمادية، والرموش ثقيلة، والمطر السحيق خان الغيمة البيضاء وسكن الغيوم الداكنة. مع الطيور المهاجرة هاجرت القلوب إلى وطن محترق، ومن تحت الرماد بنت من حجره جبلاً.
أما هو، الوسيم الخجول، فقد ترك الأمنية تضيع بفخامة الرحيل وبفظاعة الخيانة لما بعد الموت. بقي أسيراً للعنة حقيقة النظرة الأولى وزيف مصيرها. هراء البدايات بأيدينا الملوثة بالحبر.
كان مسرعاً في خطواته، لكن طيفاً شد وثاقه. رآها تراقب واجهة مغازة للملابس الشتوية، تتحدث لكل الفساتين المعلقة حافية الروح. توقف في مكانه، غير قادر على فهم السبب. كان المارة يرتطمون بجثته، وقعت الأوراق من يده، وعندما رفع رأسه كانت قد اختفت.
عاد في المساء محملاً بهموم الحب. ارتمى فوق الأريكة القديمة، غاص في النوم دون أن يخلع حذاءه أو يفك ربطة عنقه السوداء. استسلم للنوم حتى لدغه الصقيع، فٱلتف حول كتفيه وطوق ذكرى حسبها رحلت. تسلل صوت يحاول انتزاعه من عقله الذي لا يهدأ كلما مر من أمام تلك الواجهة الفخمة.
- “ٱنظر لهذا المعطف من الفرو، كم هو جميل!”
- “نعم، هو جميل ويليق بك.”
- “هو باهظ الثمن، كثيرات تقفن أمام هذه الواجهة، لكن صوتاً داخلياً يخبرني أنني أنا صاحبة هذا المعطف.”
- “هل يعجبك هذا المعطف لهذه الدرجة؟ طيب، سأشتريه لك.”
(وكان الحزن يعتم على صوته) - “أنت تضحكني… قلت لك إن ثمنه باهظ ولن تقدر على شرائه. هيا، انسى أمره. هو لا يعجبني، كنت أمزح.”
بقي صدى صوتها عالقاً، وبقي المعطف بارداً لا يخفف فروه الصقيع أو لوعة الاشتياق لتلك الفوضى العارمة.
مر الشتاء سريعاً وتعاقبت الفصول. علم أنها لم تكن تمزح، فكان هدفه ذلك المعطف اللعين. دفع ثمنه ووضع اسمها داخل جيبه مكتوباً على ورقة من روايتها المفضلة. وأوصى صاحب المحل بأن يسلمها المعطف إذا جاءت، مغلفاً بشريط زهري ووردة حمراء.
لكن الأيام استمرت رغم اختفائها المفاجئ. سمع أنها تزوجت، فابتعد مرغماً. ظن أنها قد اشترت المعطف، لكنه ظل معلقاً بمكانه. مرت الأيام، وعاد إلى المحل ليشتريه ويضع اسمها داخله.
توالت الأسئلة في عقله: هل تراها نسيت؟ أم أنها لا تزال عنيدة؟ هل هي بخير؟ كلها أسئلة جعلت منه جثة هامدة، متجمدة.
سافر من جديد إلى أرشيف الذاكرة، وتذكر تلك النظرة الأولى. كانت الحقيقة التي لا تمحى. استسلم للغفوة وصورتها قريبة منه. بقي المعطف ملكاً لها، لكنه كان السؤال الباكي: “إنت وين؟”