بقلم نجمة عمر علي
تحت سقف المطر، على عتبة مقهى، وقعت منها حقيبة يدها وانتشرت كل الألوان هنا وهناك، وتدحرج أحمر الشفاه داخل المقهى يراقص البلاط الملطخ بالطين، فتبعته تجري كطفلة تلاحق نملة في ممر الحديقة…
توقفت أمام حذاء لامع وعطر فاخر، رفعت عينيها التي أسال المطر كحلها على خديها، فرأت وميضًا من ذاكرة قديمة. كان نفس الذي فرقتها السنوات الداكنة عنه. تلعثمت وارتبكت وأخذت ضالتها وابتعدت مرتعشة الأنامل.
كانت تصفعها الذاكرة بلا رحمة، كان هو، نعم، فهي لن تنسى تفاصيله ولا ملامحه حتى وإن عبث بها الزمن. كان وسيمًا برغم الشيبات المستوطنات من أثر الدهر الظالم.
جلست بمكانها المعتاد بجانب النافذة الكبيرة ورمت بكلها جهة الشارع تراقب السيارات والمارة، وعيون لا ترفع عنها النظر لجمالها وفتنتها رغم كل سياط المصاعب. كان الحزن يجعلها أجمل من كل رفيقاتها المعقدات من حولها…
كان شعرها مبللًا وعيناها بسواد الليل ملطخة بالكحل، ويدان باردتان، وذهن شارد، وقلب مرهق ولامع من فرط الشوق. كتمت كل شيء بحلقها وسحبت دفترها وقلمًا واستهلت الورقة الندية بجملة وتركت سطرًا فارغًا للعنوان، فهي تختاره بعد الانتهاء من النص وليس قبل الكتابة.
اقترب منها النادل ووضع فوق الطاولة باقي الأشياء التي تأثرت وقاطع صمتها قائلًا:
– “هل أجلب لك القهوة كالعادة سيدتي؟”
أجابته: “نعم فضلًا وقطعة من المرطبات، شكرًا، واحرص أن تكون ساخنة، قصدي القهوة… لا أحبها دافئة لأني سأنشغل بالكتابة وستبرد سريعًا.”
ابتسم النادل وأردف: “نعم، وكالعادة تشربينها باردة سيدتي.” ورحل، وانغمست هي بالسرد والنثر وضجيج يزاحم أفكارها وكبرياء يمنعها من الالتفات حتى لسرقة نظرة تروي بها ظمأ السنوات العجاف.
وضع النادل الفنجان وكأس الماء وعاد لعمله، ولم تستفق من غرق الحروف ولم ترفع نظرها، فقط شكرت النادل ولم تهتم لرائحة الفنجان المغرية.
أنهت النص ومدت يدها الخشنة من هول ما تشقاه من إسمنت وآجر وحديد لتمسك بيد الفنجان البارد، لكنها اصطدمت بشيء غريب عن الفنجان. كانت يدان ليستا بالغريبتين على الفنجان تلفه بكل قوة. تراجعت أناملها ولم تنبس حرفًا، فقط همس مزق الصمت:
– “لا تخافي، أنا ألف الفنجان بقلبي، آسف قصدي بيدي كي لا تبرد القهوة، تمامًا كما كنت أفعل وأنت تكتبين في رواق الجامعة. هيا اكتبي العنوان، أعلم أنك تركتِ سطرًا أعلى القصة كالعادة. لم أنسَ تفاصيلك حبيبتي.”