رئيس مجلس الادارة : أحمد أحمد نور

نائب رئيس مجلس الادارة : وليد كساب

رئيس التحرير : محمد عبد العظيم

أخبار عاجلة

الجزء الثاني من قصة “كان اللقاء غريبا” للكاتبة نجمة عمر علي

الجزء الأول من قصة "كان اللقاء غريبا" للكاتبة نجمة عمر علي

بقلم: نجمة عمر علي

غرقت بكلها في بحر الحنين وكتبت العنوان وأغلقت الدفتر. مشت فوق خصلات شعرها المبللة بأصابع مرهقة ومسحت دمعة مدفونة وتظاهرت بالقوة وابتسمت ابتسامة الوجع وألف سؤال وأطنان من العتاب تصرخ داخلها، والكبرياء يكبلها ويلجم صراخها أنها ما زالت تحب اللون الأسود الذي يرتديه.

– “كيف حالك؟ اشتقت لك. بحثت عنك بعنوان بيتكم فأخبرتني خالتك أنكم غيرتم المكان، وآسف جدًّا لموت أمك. علمت اليوم فقط، أنا حقًّا آسف و…”

قطع الحديث رسالة قصيرة بالهاتف: “حبيبتي لا تجهدي نفسك في الطبخ، سأجلب معي الطعام جاهزًا وسأجلب البنات أيضًا من المدرسة. أكملي روايتك وسأصطحبك للبيت بعد ساعة. أكملي روايتك اليوم أرجوك. أحبك.”

لم تجب برسالة نصية، فقط طبعت وجهًا مبتسمًا وعلامة ممتنة، وقلبت وجه الهاتف فوق الطاولة المرتعشة، فالطاولة الشاهدة على كل السنوات التي جفف الخشب العتيق دمعاتها وحروفها الملتحفة بلحاف الصبر الذي لم يمنع تسرب برد الشتاء لمفاصل القلب والشرايين المتضخمة…

ووقفت من مكانها مضطربة العقل ومنكسرة القلب، عازمة على الرحيل. كانت بداخلها غضب يقول: “تبا لك يا حبيبي…” لكنها خنقت الكلمات وشنقتها وأحكمت تطابق أسنانها البيضاء كبياض الثلج وحكمت على الماضي بالنفي والإعدام شنقًا حتى الموت…

أمسك الغريب يدها وقال:

– “لقد سافرت من أجلنا، من أجل أن أحقق أحلامك. لقد عدت من أجلك. بنيت البيت والمطبخ الإيطالي جاهز وغرفتنا بشرفة تطل على حديقة مزهرة، وخصصت لك ركنًا جميلًا للكتابة وعلقت كل رسوماتك على جدار قاعة الجلوس. اشتريت السيارة بنفس اللون الذي تحبينه على قمصاني، حتى العطر الباريسي اشتريته، حتى مقاس قدميك لم أنسه… لماذا لستِ سعيدة برؤيتي؟ ماذا حدث؟… فقط تكلمي، اصفعيني حتى لو يريحك…”

أفلتت يدها والحياء من نظرات الجالسين يجعل منها أجمل لاحمرار وجنتيها. لم تجبه وهمت بالخروج، صرخ بصوت أجش وأجهش معتذرًا. تفطن كل الجالسين للجلبة ولكنهم تظاهروا باللامبالاة، حتى النادل شده الفضول لكنه واصل عمله مستغربًا، فهو لأول مرة يرى السيدة منفعلة وصامتة.

ضرب الغريب الطاولة وقال: “ماذا، هيا أجيبي، هل نسيتي كل شيء، ولكن عفوًا، أنت حبيبتي أو أنا مخطئ، عفوًا اسمك… صحيح سيدتي أو أخطأت الاسم… تكلمي…”

كان عليها لملمة الضوضاء وتشتيت انتباه الفضوليين، فتحدثت بصوت خافت خائف متقطع:

– “لقد تأخرت جدًّا، لم تخطئ الاسم لكنك أخطأت العنوان. لم أطلب منك كل ذلك لأكون سعيدة، كانت كلها أحلام تشاركناها ولم ننوي تحقيقها حتى. كنا نحلم فقط، كنت أنت من نويت تحقيقه. أنت أيها الغبي، لكنك رحلت واختفيت، انتظرتك وانتظرت لكنك تأخرت والحياة لم تنتظر أحلامك ولا أحلامي. تغير كل شيء، لا أحلم اليوم بكل ذلك، أصبحت أحلامي بسيطة، … أو ربما كنت أنا الغبية لأنني مللت توبيخ أمي وأبي عن سبب الانتظار فانهزمت واستسلمت لسياط الجلد والعذاب، عن أي شرفة خرقاء تتحدث وعن أي مطبخ تافه تحدثني، تبا لك، لقد خذلتني وتعود الآن… ومعتذرًا عن ماذا، عن ماذا وعن أي شيء تحديدًا تعتذر… يا جلادي… ها ثم ماذا تعرف أنت عن حالي بعد أمي… وتتأسف لماذا، لأني قبلت عزاء أمي وأنت مسافر تحقق أحلامك… هي أحلامك وحدك… وحدك فقط… وعن أي فقد ستواسيني وأنت من علمني أن أحب الدموع وجعلت وجع الفقد يؤنس غربتي في وطني،… كم افتقدتك! وكم احتجتك! … لكن الآن لست بحاجتك ولست حبيبتك… لم أعد حبيبتك، أنت غريب عني ولا يصح أن تحدثني حتى… أفلت يدي وارحل، بل اغرب عن قلبي ولا تعد أبدًا، أحتاج فقط أن يهدأ عقلي، أن أنام ليلة واحدة وأنت غائب عن كل أحلامي،… لو كنت حبيبي حقًّا فساعدني حتى أنساك… كم أصبحت أكرهك! ولا شيء فيك يعجبني حتى اللون الأسود هذا أكرهه، أنا لست أنا ولا أنت أنت…”

وعم الصمت كامل أركان المقهى وتسمر الغريب الثري مكانه وتجمد الدم في عروقه وجف حلقه. وضعت الدفتر أمامه وحملت حقيبتها وتركت فنجان القهوة البارد منتحبًا وخرجت مسرعة وكأنها تهرب من حلم تحقق. وقع الغريب بثقله على الكرسي العتيق، ذرف دمعًا صاخبًا، لملم شتات أنينه متظاهرًا بأن الرجل القوي لا يبكي فدمع الرجال غالٍ… وقعت عينه على الدفتر المترهل المغرورق، فتحه، قرأ.

كانت روايتها التي أنهتها، وضعت أمامه حلمها الجديد ورحلت، وكأنها انتصرت عندما أنهت السطور الغريبة عنها، فالحروف كانت تنهال لأنها مشتاقة وانتهى الشوق فجأة بحضور الغائب عن جثتها… كان العنوان نديًا كورق الخريف، أمسك بقلبه حتى لا يقع واستندا معًا، هو وروحه، على جدار روح منهزم، حتى قلبه خذله وواصل النبض والحياة. تمنى أن تبتلع القاعة رفاته، تمنى لو أنه ذلك الأحمر الشفاه الذي تدحرج وخبأته في حقيبتها… لكنها رحلت وأغلقت الحقيبة… ورحلت…

… ومرت سنوات، ومرت برواق دار نشر، كان حلمها أن تكون روايتها معروضة هناك وتسمرت مكانها، وقعت الحقيبة مجددًا على قارعة الحروف، وتناثرت كل محتوياتها البالية. كان عنوان روايتها معروضًا واسمها مكتوبًا. انتفضت بشعور مختلف لا عنوان له، شعرت بيد ربتت على قلبها، جمع المارة أشياءها ووضعوها بالحقيبة. التفتت يمينًا ويسارًا حتى لأعلى السماء نظرت وتمنت أن يعود… بحثت بين الأحلام المعلقة، نبشت قبر العشق المعطل، تمردت على الواقع المؤجل، لكنه هذه المرة فعلًا قد رحل.

وشق صوت صمت المكان، كان صوت أول مشتري للرواية:

– “من فضلك هل سبق وقرأتي هذه الرواية، بعنوان “أنتظر عودة حبيبي”… للكاتبة…”

سكتت الكاتبة وحملت ما تبقى منها واختفت في الزحام تصارع الزمن لتقف على عتبة المخبزة وتشتري خبزًا للأفواه الجائعة المنتظرة بالبيت الصغير الذي يفتقر للمطبخ الفخم ولشرفة غرفة… وتلك هي الدنيا التي نعيشها ولا نحياها… فنكتب كي نصمد… وسنحتاج من الله لعلامة فقط كي نصمد…

عن أحمد شعبان

شاهد أيضاً

الجمهور يحاصر محمد رمضان في الشارع قبل "أسد"

الجمهور يحاصر محمد رمضان في الشارع قبل “أسد”

كتب: عمرو موسى تعرض الفنان محمد رمضان لموقف مميز أثناء تواجده في أحد شوارع القاهرة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *