
بقلم: أحمد زكي
مازالت الكلمة حائرة بين مفهومٍ لم يُقصد ومقصودٍ لم يُفهم، فاجعل كلمتك بسيطة حتى يفهم مقصدها.
رحلة على الطريق (الجزء الثاني)
أكرّر شكري للشعب المصري، وخاصة سائقي السيارات بمختلف أنواعها على الطريق، لوقوفهم بجواري ودعمي كلٌّ حسب إمكانياته، مما أدى إلى حصولي على هذه الجائزة الدولية.
في الجزء الأول انتهينا إلى أن السيارة أصبح شكلها غريبًا وأصبحت تثير إعجاب السيارات المارّة على الطريق من المادة اللاصقة، وعليها المخلفات وعلب الكانز وعلب العصير الكرتونية، وفتحات في الزجاج الأمامي والخلفي نتجت عن دخول الأسياخ في العربة.
والوقت يمر، وما زال الطريق طويلًا ولم أبدأ المأمورية بعد… قررت أن أتحرك على يمين الطريق وأبطئ في السير حتى أصل بالسلامة.
وإذا بصوت بوق عالٍ جدًا من خلفي مستمر لا ينقطع! ماذا أفعل وأنا في أقصى اليمين؟ كانت شاحنة نقل قلّاب كبيرة، أصر سائقها على العبور فاستغربت حتى توقفت، وإذا به يضحك بسخرية وبعلو صوته وهو يعبر بجانبي:
“هكتبلك اسمك على السيارة!”
وفجأة فتح القلّاب ونزلت منه كمية كبيرة من الرمال. كان السائق محترفًا يتلوى أمامي بالشاحنة كالمجنون وكميات كبيرة من الرمال تتساقط من العربة، أغرقت الطريق وأغرقت سيارتي. ودّعني قائلًا:
“علّمت عليك وكتبت اسمك عشان تفتكرني!” ثم زاد من سرعته حتى اختفى من أمامي.
نزلت لأشاهد السيارة، فإذا بإضافة لما هي عليه، تكوّنت كميات كبيرة من الرمال والتصقت بالمخلفات السابقة، ليصبح شكل السيارة ككائن فضائي يسير على الأرض.
احتفظت بالمساحة التي تسمح بالرؤية، ومادام الموتور دائرًا قررت مواصلة الرحلة. ارتفع الضغط وزاد السكر وبدأت آلام القولون، لكن المأمورية… لابد أن أكمل! الوقت يجري.
بدأت التحرك مرة أخرى على يمين الطريق وبسرعة هادئة، وبدون أي مقدمات فوجئت بمشهد مرعب: شاحنة نقل كبيرة بقلّاب وقفت فجأة وبدأت في إلقاء حمولتها على الطريق أمامي مباشرة. لم أستطع تفاديها.
وإذا بالمخلفات عبارة عن كميات كبيرة من الطوب المكسَّر والخرسانات القديمة ومخلفات أخرى تصطدم بالسيارة من الجانب الأيمن وأنا أتحرك بسرعة لتفادي خسائر أكبر؛ فقد دُمّر الجانب الأيمن للسيارة والسقف الخلفي والصاج والأبواب بالكامل في الجانب الأيمن.
وقفت بعد عبور الشاحنة لأشاهد ما حدث وأعاتب السائق على فعلته في الطريق العام، وإذا بي قبل أن أبدأ الحديث، يتحرك نحوي هو وتباع الشاحنة ويشهران في وجهي سلاحًا أبيض حتى لا أنطق بكلمة! أمراني بالمغادرة سريعًا وهدداني قائلين:
“أي كلمة هنخلّي وشك زي العربية الخردة اللي راكبها!”
وقال السائق:
“احمد ربنا إنها جات لحد كده!”
طلبا مني المغادرة فورًا وضحكا بصوت عالٍ وأنا أجري مسرعًا من أمامهما. حمدت الله أنني سليم وأن السيارة ما زالت تدور، واضطررت للمواصلة لكسب الوقت.
لم يتحمّل كاوتش السيارة كل هذه الأحمال والصدمات وبدأ ينهار ويفرغ الهواء، وسط نداءات قائدي السيارات على الطريق بضرورة نفخ العجل مع ابتسامات ساخرة على هذا المشهد وما آلت إليه السيارة. وبحسن حظي! وجدت كوخًا داخل الطريق مكتوب عليه “إصلاح كاوتش”.
كان لابد أن أدخل مدقًّا على الطريق غير ممهد لأصل إلى الكوخ. محل غريب ولا يوجد أحد أمامه، مليء بكاوتش قديم وممزق واللون الأسود يخيم على المكان. فجأة ظهر أمامي رجل مخيف تشعر أنه من أهل الكهف، ذو شعر كثيف وشارب كبير غير مهذّب ويرتدي ملابس ممزقة كلها عليها تراب أسود.
لم يعطني فرصة للكلام، وقال بصوت عالٍ:
“عربيتك فيها ستون خرما في الكاوتش كله! وهاعملهم غصب عنك، ومش هتمشي من هنا إلا لما تحاسب على إصلاح الستين خرما!”
شعرت بالخوف ونظرت حولي فلم أجد أحدًا، وهناك مسافة بيني وبين الطريق السريع، ولا بد أن أصلح العربية لأكمل المأمورية. رضخت للأوامر الصادرة من هذا “الجن” الذي يقف أمامي، وإلا لا أعرف عواقب عدم الموافقة.
قام بالإصلاح في زمن قليل جدًا، فقلت له:
“عملت الستين خرما؟”
قال بصوت حاد:
“إنت مش مصدقني ولا إيه!”
واحمرت عيناه مع السواد الموجود، رافعًا الكوريك لأعلى طوال الحديث.
بسرعة قمت بمحاسبته وانصرفت من أمامه دون الالتفات خلفي حتى ركبت الطريق وتنفست الصعداء. وتذكرت كلمات والدي في الشدائد:
“عليك بالصبر فلكل محنة منحة”.
ولم أهنأ أبدًا؛ فبعد أمتار قليلة وجدت نفسي فوق كميات كبيرة من المسامير الصدئة ملقاة على الطريق، واقفًا عليها تمامًا! وحدث المرجو؛ تهاوى عجل السيارة بالكامل وسمعت دويّ انفجارات هائلة عجلة تلو الأخرى.
لم تعد السيارة سوى هيكل أو مجسّم غريب الشكل: مادة لاصقة قوية اجتمع عليها مخلفات وقمامة وكانزات وعلب عصير ورمال كثيفة وزجاج مفتوح أمامي وخلفي وجانب أيمن مدمَّر تمامًا بلا صاج وأربع عجلات منهارة!
انهرت تمامًا وجلست داخل العربة، ولم أكن أرى شيئًا سوى فتحة صغيرة أمامي تكفي لرؤية الطريق، ومنها شاهدت رقمًا على جدار الطريق مكتوبًا عليه “ونش إنقاذ سريع”. دون أي تردد قررت الاتصال به لينقذني من هذه الورطة ويوصلني للمأمورية أولًا ثم أرى ماذا أفعل في “التحفة الجديدة” التي أصبحت عليها سيارتي.
وصل الونش سريعًا وظل يبحث عني وهو بجانبي، فلم يتخيل أن هذه هي العربة المطلوب إنقاذها. خرجت من العربة بوجه شاحب وإعياء كبير وسط المفاجأة والانبهار من هذا المشهد لسائق الونش الذي ظل ينظر إليّ بشفقة وقال لي:
“هو حضرتك بخير؟”
ثم انفجر ضاحكًا بعد أن سردت له الرحلة على الطريق والأحداث التي مرّت بي وما فعله بي سائقي السيارات حتى وصلت إلى ما أنا إليه. ظل يضحك حتى حمل السيارة على الونش وأنا بداخلها.
وعلى حدود المحافظة وجدنا شيئًا غريبًا: استقبالًا كبيرًا واصطفافًا على جانبي الطريق وأعلامًا كبيرة تخص موسوعة “جينيس ريكورد”.
ناديت على سائق الونش من الشباك:
“ماذا يحدث في محافظتكم؟ هل لديكم احتفالية؟”
فقال:
“لا أعلم!”
وفجأة طلب المسؤولون استيقاف الونش وأبلغوه بضرورة نزولي لمقابلتهم. نادى عليّ سائق الونش، فنزلت متخوّفًا والأحداث تجري بسرعة وتمر أمامي حتى أتذكر هل ارتكبت أي خطأ؟ لم أتذكر سوى شيء واحد: أنني دُمّرت تمامًا أنا والسيارة!
وفور نزولي لمقابلتهم فاجأوني بتصفيق حاد وحملوني على الأعناق، والكل سعيد وأنا في ذهول وسائق الونش متعجب، كاد أن يُغمى عليه! ماذا حدث؟
إلى أن حضرت سيدة أنيقة ولبقة الحديث وقالت لي:
“مبروك لحضرتك… لقد حصلت على جائزة من موسوعة جينيس ريكورد العالمية في عمل أفضل مجسم طبيعي في العالم من السيارة. لم يحدث في التاريخ أن نرى هذا المجسم! لقد شاهدناك وأنت تحمله على الونش بعد أن قمت بتصنيعه بهذا الشكل الجميل، وتابعناك حتى وصلنا وقمنا باستقبالك”.
قامت الكاميرات بتصوير السيارة التي أصبحت “المجسم المصنّع العالمي”، وقام المراسلون بعمل حوار صحفي معي لمعرفة كيفية عمل هذا المجسم العالمي من السيارة.
فكانت كلماتي كلها:
“بشكر كل سائقي السيارات على الطريق الذين ساعدوني كلٌّ بمقدرته: من رذاذ ومخلفات ومناديل ورقية وكانزات وعلب كرتون العصير، وعربة الرمال، وعربة الأسياخ الحديدية، وعربة الطوب، ولا ننسى عامل إصلاح الكاوتش في الكوخ وكمية المسامير القريبة من الكوخ وسائق الونش… فعلًا فريق عمل متكامل ساهم في عمل هذا المجسم العالمي والحصول على هذه الجائزة العالمية.
شكرًا لكم جميعًا.”
إلى اللقاء،،
قرمشة:
- عندما يكبر الإنسان يكتب بقلم حبر لا رصاص حتى يتعلم أن محو الأخطاء لم يعد سهلًا.
- لا يوجد فرق بين لون الملح ولون السكر، فكلاهما نفس اللون، لكن ستعرف الفرق بعد التجربة. كذلك هم البشر.
- دائمًا ستكون هناك قلوب لن تكرهك مهما أهملتها، وقلوب لن تحبك مهما أكرمتها… فأحسن الاختيار.
- الأصدقاء لا يتغيرون، بل نحن نتسرع في أن نطلق على البعض “أصدقاء”.
- نصف الراحة عدم مراقبة الآخرين، ونصف الأدب عدم التدخل في ما لا يعنيك.