علي لفته سعيد
فكرة
ثقافة فهم النصّ -14-
علي لفته سعيد
إن ثقافة فهم النصّ تحتاج الى كميةٍ كبيرةٍ من الحريّة بين طرفي المعادلة.. المنتج للنصّ ومتلقّيه لتكون النتائج صحيحة.. ولكن ينبثق السؤال مجدّداً: هل ستبقى حرية المنتج في اختيار طريقه الواضح لإنتاج نصّه دون عوامل الخوف مثلا من متلقٍّ لا يفهم التأويل أو انه يؤوّل كيفما يريد لأن في النصّ ما يخالفه ويخالف مؤسّسات تريد التحكّم بالوعي وطريقة الكتابة وأهدافها ولا تسمح بالمنافسة والمناقشة أو محاولة التأثير على الوعي إذا ما اعتبرنا النصّ واحداً من أدوات التفعيل الثقافي ونشر الوعي بين الناس ؟
إن الحرية هنا كما يصفها أصحاب هذا الرأي تنتهي حال دخول النصّ إلى هذه المؤسسة ما دامت هي اجتماعية متأثرة بالمحيط العام. وإن المنتج باستطاعته أن يشقّ طريقه وحيداً إذا كان مبدعاً وسيجد فاعلية القراءة وعملية التأويل وعملية التطبيع والواقعية ونظرية المحاكاة التمثيلية التي يتمتع بها المتلقي عند استقباله للنصّ، ستكون كفيلةً بتأشير هذه الحرية، وبالتالي سيكون فهم هذه النقاط واقعاً على فهم النظرة التقليدية للنصّ، وستكون العلاقة بين النصّ ومنتجه سبيله للخلاص من تبعية المؤسسة وتأثيرها عليه.
ومن خلال هذه النقطة يمكن لنا ان نتجادل عن فحوى قيام البنيويون بقلب هذه النظرة وقالوا إن المتلقّي لديه القدرة على التعامل مع النصوص الأدبية بحكم الاكتساب المتولّد عن طريق استمرارية القراءة فكوّنت لديه فاعليةً قادرةً على استنتاج القصدية المغايرة لقصدية المنتج الذي تحوّل دوره الى كونه آليةً فاعلةً نسخت النصّ بمجرّد دخوله أي النصّ ضمن الكتابة كنوعٍ من أنواعها، لأن النصّ سيكون منتمياً إلى نوعٍ معيّن من الأجناس. ونتيجة لهذا الانتماء يكون وهم التحليل والتأويل قد برز بشكلٍ مغايرٍ عن المفهوم السابق، لأن العلامات الكتابية هي علاماتٌ تشير إلى إطارٍ خارجيٍّ طبيعي. بينما تكون مهمّة التحليل والتأويل هي كشف معاني العلامات وبنيتها. وإن التحليل المعاكس لقصدية المنتج يقول إن هذه الفاعلية القرائية التي اكتسبها المتلقّي تأتي مشحونةً مسبقاً بتطلعّاتٍ محدّدةً بسبب خبرتها ومعرفتها لنصوصٍ سابقةٍ ومشابهةٍ ضمن الكتابة المؤسساتية.
إن فهم النصّ بعد معرفة مكانه ضمن المؤسسة الاجتماعية، يعتمد على إدراك العالم الذي يحيل إليه النصّ.. بينما تعتمد صيغة الكتابة على قدرة المتلقّي على إدراك العالم كنقطةٍ مرجعيةٍ بالنسبة للنصّ. وكذلك على المتلقّي أن يدرك إن اختلافات الموقف الاجتماعي وتغيّراته ستؤدّي إلى تغيّر مفهوم الكتابة،على اعتبار إن عملية تطبيع النصّ تخضع لتغيّرات الموقف الاجتماعي .. فأعراف النصّ الأدبي وقوانينه وتقاليده هي بالضرورة احتمالات تحقّق المعنى وهي طرقٌ مختلفةٌ لتطبيع النصّ وواقعيته، ومن ثم إعطاؤه مكانه ضمن صيغٍ أو نظام حياته الثقافية مسبقاً.. وتقتضي عملية التطبيع عدّة مستوياتٍ تضئ النماذج الأدبية التي تهيّئ قابلية النصّ للقراءة والرابط المألوف الذي يجمع هذه المستويات والنماذج معا هو مفهوم المطابقة بين المتقابلين.. المنتج والمتلقي وما بينهما النصّ.. وتحتاج عملية المطابقة الى وعيٍّ إدراكيٍّ بأهمية التلقّي من الطرفين المتقابلين حيث لا وجود للتعالي أو تغييب الآخر أو استنزاف الطاقة بالسخرية على أساس إن المنتج لا علاقة له بالمتلقّي وأنه ينتج للذين يفهمون ما يريده، أو أنه ينتج ليحوّل نصّه الى خطابٍ طائر في الفضاء، وكذلك لا قول للمتلقّي من أن المنتج مؤلفٌ مات وإن بالإمكان ممارسة دور التقليل من ابداعه قبل إكمال تفحّص أدوات النصّ التي جعلته بقوامٍ كاملٍ من المعاني والأشكال والملامح والقوة والديمومة، ولا بقدرة المتلقّي على تسويق الرديء بحكم العلاقة مع المنتج.. ولهذا فإن المطابقة لا تعني الوصول الى نقطة التقاء محبّبة تجمع المتقابلين أو الطرفين بل هي نقطة الوصول الى محاولة فهم الآخر وتيسير وتسيير مهمة اللّغة كي تكون قريبةً من نقطة المعادلة بين الطرفين. خاصة وإن عملية تطبيع النصّ تستلزم دائماً وضعه في علاقة مع نوع خطاب أو نموذجٍ لمقالٍ يتّسم مسبقاً بالطبيعية أو الموثوقية، وقد لا تكون لهذه النماذج سمة الأدبية الخاصة وإنما هي فقط مخزونٌ هائلٌ لما تعدّه الثقافة طبيعياً أو مؤهّلاً للمصداق، وتندرج هذه النماذج تحت هذا المصداق التي عرفها (تودوروف) على إن قابلية المصداق هي العلاقة التي تقوم بين نصٍّ معيّنٍ ونصٍّ آخر عام متشعّبٍ ومتفرّغٍ يسمى (الرأي العام) وإن قابلية المصداق هي إن شيئاً صيّره التراث الموثوق مناسباً ومتوقّعاً من نوعٍ أدبيٍّ محدّد.
وأيضا يستطيع المتلقّي أن يتحدّث عن مصداق العمل كلّما حاول العمل أن يقنعنا إنه يخضع للواقعية أو الحقيقة وليس لقوانينه الذاتية ,وقد استطاع (جوناثان كولن) أن يحدّد خمسة مستويات لتوضيح قابلية المصداق على النصّ الأدبي، وقد جعلها كطرقٍ يتسنّى للنصّ من خلالها أن يتفاعل مع نصّ آخر ويتم تعريفه من خلال علاقته بهذا الآخر حتى يكون النص قابلا بالإدراك وهذه المستويات هي.. أولا: النص الاجتماعي المسلم به. ثانيا: النص الثقافي.ثالثا: نصوص النوع الأدبي وأعرافه التي تهيّئ مصداق الأدبي والفنية.. رابعا: ما يمكن تسميته بالموقف العام ما هو فني (مصطنع) حيث يقوم النصّ الكتابي باقتطاف قابلية المصداق لدى النصّ الثقافي وكشفها بصراحةٍ ووضوحٍ، حتى يعزز هيمنة ذلك النصّ وسلطته. خامسا: قابلية المصداقية للنصوص المتداخلة المعينة حيث يأخذ نصّ ما نصاً آخر كنقطة انطلاق وبداية ولابد من معالجته من خلال علاقة الاثنين ببعضهما، وعلاقة كل منهما بنظامه المرجعي الذي يضفي عليه صبغة الطبيعية.
ولذا فإن ثقافة فهم النصّ تتعدّد في جوانبها واحتكاماتها، ولكن تبدو عملية المصداق بين طرفي المعادلة هي اللحظة الرائجة التي تحتكم إليها روحية النصّ ذاته وما يحمله من أدوات باثّة للموضوعية التي يتقبلها المتلقّي وإن يعمل المنتج على أن يكون مصداقه قابلاً وقادراً على الموازنة بين فعل المخيّلة والتجريب وبين فهم النصّ.
العمود الاسبوعي الذي تنشره ثقافية جريدة الدستور اليوم الاثنين
Order Zolpidem From Canada الإثنين 27 فبراير 2017 منوعات اضف تعليق