نقدم لكم سلسلة روائية جديدة بقلم الكاتبة نجمة عمر علي وهذه المرة بعنوان جذور الوجع والآن أترككم لتسمتعوا بالنص
كعادتها، استيقظت مع خيوط الفجر المنادية لرحيل الظلام.
لبست جناحين من قرمز اللون ونسجت من الشرنقة المعلقة على جدار الصباح. لفحتها الشمس الصفراء المتوهجة فتعرقت، وسال العرق باردًا على أطراف الحديث المنسدل من جوف السماء لقرار الروح.
تعبت من السير فرامت الجلوس تحت ظل الباسقة المورقة الفيحاء، ولطمت الأرض وتمددت فوق السهل المعشوشب المخضر. أغراها الدفء فنامت. تمتمت الشجرة بعضًا من الكلام واختفت.
زارت الشجرة أحلام الطفلة الغارقة في الوجع… هكذا كانت تظن.
غرقت جذورها في ماء حرق أماكن البراعم المتجددة، وتغلغل الملح في تشققات اللحاء، فصرخت المورقة من فرط الألم.
نظرت لأنفاس تسابق الحياة في حركة طلوع ونزول بلا ترتيب ولا هدف، فاقتربت لتشم عطرًا من الذكريات المتوقفة.
رأت كل ما يشعر الطفلة بالوجع: فتلك صورة لوجه ناعم مبتسم، وتلك أغنية من زمن الصبا، وتلك قبلة معطرة بالخجل، وذلك سؤال عن الحال، وذلك وجه لأب غائب، وتلك المرايا المشروخة، وتلك الصفحات المخدوشة، وذلك العلم لراية أرض مغتصبة، وأصوات لحقوق منتهكة.
وتلك رسائل مغلقة من عاشق مقتول، وتلك قصة بلا نهاية، وتلك رواية بلا بداية، وتلك وعود واهية، وتلك صحون خاوية، وتلك أرواح منادية، وتلك حروف شهيدة قد ماتت فوق قبر الأيام.
وذلك فستان أبيض ممزق، وتلك أفراح مؤجلة.
“ربي لطفك” …صاحت الشجرة المتطفلة على أسرار الوجع.
أرهقت تلك الذكريات الشجرة، فتجردت من الأوراق وغطت البنت الناجية الصامتة. مسحت على شعرها فهي اليتيمة، وربّتت على قلبها فهي الوحيدة، وقبّلت جبينها فهي الفقيدة، وجففت عرقها فهي المنهكة والمتعبة.
لم تتحمل الشجرة صوت الأنين من تحت أوراقها، ولمحت حريقًا خفيفًا يشتعل بالفؤاد العاشق المكلوم. فانتفضت وابتعدت؛ فهي الشجرة العتيقة ذات الأغصان اليابسة. خافت أن تنتشر بجنباتها النار، والنهر بعيد جدًا عنها، والغابة مهجورة، وعنوانها في قصص الخيال المتروكة.
عادت لمكانها منتصبة، منتظرة لشعاع القمر، لكنها شعرت بشيء ما زال عالقًا في المنام. لم تشعر بالحرية. شيء ما كبّلها وقيد حريتها. فانتشر بأغصانها الهلع، وفهمت أن جذورها هي التي تحمل كل الوجع. فكل ما رأت كان وجعها هي.
كانت الطفلة تحلم بالفراشات والمطر، لم تحمل نوعًا من أنواع الوجع.
جذور الوجع كانت جذور تلك الشجرة المنسية.
حاولت إقناع نفسها أنها ليست صاحبة الوجع… نوت أن تعيد كساء أغصانها العارية، لم تستطع، فبكت.
نزل الدمع مدرارًا على خد المتعبة.
لملمت قطعًا ممزقة من الشرنقة.
نفضت عنها أوراق الشجرة وغادرت بلا اعتذار.
نامت تحت ظلها وتغطت بأوراقها ورحلت.
انتظرت الشجرة قبلة الوداع.
انتظرت الشجرة عناقًا.
بكت لأنها تعرت لتغطيها، واحترقت لتتدفأ هي، وقلعت ثمارها لتطعمها، وهي التي كانت صاحبة الوجع.
عاشت تلملم جراح النائمين تحت ظلها، وتخيط شروخ الزمان، وهي ذات اللحاء الممزق والمعصورة دمًا وألمًا.
كانت شجرة زيتون مقلوعة من أرضها، ومهجرة، ومغروسة في أرض غير أرضها. كانت ترى ما تراه جذورها هناك.
كانت هي صاحبة الرؤى والوجع.
غرسوها فوق سطح الأرض المبللة، ولم يحفروا قبرًا لجذورها لتتمدد، فظلت الغريبة الوحيدة المحتقرة.
حتى الطيور رفضت أن تبني أعشاشها فوق أغصانها، لأنها كانت الغريبة الراحلة المنتظرة.
أهانها الزمان، سيدة النساء.
فآه من وجعي…
ماذا تنتظر؟
فتسللت الآهات لكل القلوب المتعبة، وتأرجحت الأرواح فوق جذور الوجع.
أرجوحة الزمان كانت ثكلى بأهازيج البراكين الخامدة.
نيران باردة قصفت الروح، وعصفت بالوجد عصفًا.
آااااااااااااااه من وجعي على فراق الأم، وألف آه على وطني، وشجره المهجر، وخيامه العارية، ورياحه العاتية.
تعرقت وسال الماء باردًا، جمد الدم في العروق. أظنني صاحبة كل الوجع، وليس الشجرة.
فأشياء كثيرة هنا كتبتها عبثًا.
أشياء كثيرة هنا سكبتها في جوف الغيم.
أنتظر مطر الفجر الواعد بالمحصول الوفير.
أشياء كثيرة تبعثرت.
ألملم الأشياء، وأتمنى لو كنت حجرًا.
حجرًا لا يحن لشيء.
رحلت الطفلة وقد علق بخصلات شعرها وريقات سرعان ما ستجف، وتذروها الرياح مع باقي الذكريات.
وضعت القلم وتساءلت: “من كان يرى الحلم الآن؟ هل كانت الطفلة التائهة بالغابة، أم الشجرة المتجذرة، أم أنا التي كتبت حروفًا وبكت؟”
جذور الزيتون في أرض الحبيبة باقية غصبًا وفرضا.
بإمكانك قراءة كل ما نشر للكاتبة نجمة عمر علي خلال زيارة الرابط