رئيس مجلس الادارة : أحمد أحمد نور

نائب رئيس مجلس الادارة : وليد كساب

رئيس التحرير : محمد عبد العظيم

أخبار عاجلة

الأديب طارق رضوان يكتب: قصاقيص من رحم الحياة 1

بقلم: د/طارق رضوان

سيدتي.. القابعة خلف أطياف الانتظار.. هلا سمحتِ لي ببضع أمنيات أخفيها بين خصلات شعركِ؟
إليكِ طفل ضعيف، ذو الاثنين والخمسين عامًا، تائه.. ينظر بعينين ذابلتين إلى أفق الرجولة.. يريد أن يخطو خطوته الأولى والأخيرة.. هلا أخذتِ بيدي ومضيتِ بي قليلًا إلى الأمام؟
اثنان وخمسون عامًا.. ازددتُ إيمانًا بالله.. وبعدًا عنه، وازددتُ كفرًا بالناس.. وقربًا منهم.
اثنان وخمسون عامًا.. وما زلتُ أقع في الأفخاخ التي أنصبها لنفسي.. وما زلتُ أبحث عن ذاتي ولا أجدها.

لا يجوز أن تحقد على الأقدار، فلها أسلوبها المستعصي على الفهم، ولكن.. لا يمكنك أن تكبح فيض الأسئلة..

ما زلتُ.. كما كنتُ.. لا جديد! ما زلتُ أتخفى خلف صمتي.. ما زلتُ أتنهد بلا فائدة، ما زلتُ حينًا أشرد.. وحينًا أتصنع الشرود.. هربًا من سهام الأعين وامتحان تلاقيها. ما زلتُ لا أدري ما أريد.. لا أدري من أحب.. ومن أكره.. ما زلتُ أضع نفسي موضع الانتظار والترقب.. انتظار ماذا؟ لا أدري أيضًا..

ما زلتُ أبحث عن بقاياي.. أفتش عمّا تاه مني عني.. أتلمس الطريق كالأعمى.. ما زلتُ أحاول أن أفهم..
كيف تراكبت كل هذه المتناقضات لتكون حياة! رغم علمي أن تلك المتناقضات هي دستور الحياة. كيف تكاملت هذه البشاعة.. لتكون واقعًا!

حتى الحرب توقعتها مختلفة، توقعتها مليئة بالمبادئ، بالحماسة، بالاشتعال شوقًا لانتصار القضية.

ففي مدينة الأحزان.. في كينونة الخذلان.. حيث أعيش.. في كل يوم.. وعند كل فرصة تُتاح لي.. أخلو إلى كآبتي.. أنصب للعزاء خيمة.. وأجلس فيها.. في عمقها.. في غيبوبة الظلام والسكون والصمت.. أعزي نفسي.. بموتي وموت كل الألوان من حولي..
أتجاذب أطراف الحديث مع روحي المريضة.. ألومها.. أعنفها.. فتبكي وتئن.. ثم أخادعها بكلمات كاذبة أو صادقة.. لتهدأ وتسكن.. وأعيد الكرة.. مرات ومرات..

ترى، لماذا يغرينا الحديث عن أنفسنا؟ هل هو الغرور؟ التشبث بالذات؟
أنا لا أتحدث عن حالة، بل عن إطار يسكن فيه الآلاف، وربما الملايين.. لا يهم! فأنا قد سئمت!
سئمتُ “اللاجدوى” التي أدور وأدور فيها منذ سنوات.. لأعود في كل مرة إلى نقطة العدم.. بل وربما ما دون العدم!
سئمتُ ترددي وحيرتي، سئمتُ طول الشرود والأرق والكوابيس، سئمتُ من اختلاق الأعذار لتجنيب المخذولين مرارة الخذلان دون جدوى، سئمتُ من شرح نفسي للآخرين، سئمتُ احتجاب معناي عن الناظرين..
لستُ لغزًا.. ولستُ قفلًا صدئًا.. ولكنهم لا يقرؤون جيدًا!
سئمتُ طرق أبواب المجهول.. وانتظار الصدف السعيدة..

هل تفهمون ما أقول؟ أم أني نغمة يتيمة؟
غدًا.. تنقضي لحظات الأنين وتبتسم الثغور..
غدًا.. يبرد الجمر وينساب الماء وينزاح رماد الخوف والمعارك..
غدًا.. يصمت الرصاص وتنسدل الأجفان على أرق العيون..
غدًا.. يتراكض الأطفال.. يرتمون في أحضان أمهاتهم.. تتدلى أقدامهم الغضة على الأكتاف في جذل..
غدًا.. ترحل غمامات الموت وتشرق شمس أصفى وأجمل..
غدًا.. تهدأ خفقات القلب.. وتنساب الأنفاس في الصدور بهدوء ولين..
غدًا.. تعود طيورنا.. وترحل غربانهم..
غدًا.. متى يأتي غد؟ متى تصفو لنا الأيام؟ متى يتعانق الأحبة؟ متى ترتوي الأفواه؟ متى يصمت الليل ويضج النهار؟ متى يعود الكون إلى رشده؟ متى نغفو قليلًا؟ متى نصحو قليلًا؟ متى نحكي لله أوجاعنا؟ متى تصلي الأفئدة؟ متى ترتقي الأرواح؟ متى تسكن النفوس؟

وحيدون نحن في سراديب الأسى، تصبغ وجوهنا أوحال الشقاء، نستجدي لطف الكون.
من يداوي جراحات القلوب؟ من يبني لنا بيوتًا من أمل؟ من يروي ظمأ الأرض؟ من يوقد لنا نارًا تسكت صرير الأسنان؟ من يسمع أنين الحيارى ويفهم أوجاع الروح؟ من ينتشل العالم من غربته أو ينتشلنا من غربة العالم؟

أكتب.. وأعبر بكلماتي عن “حصار الأفكار” و”قحط الكلمات” الذي يتملكني منذ فترة طويلة. وكلما قررت أن أكتب فكرة تضجّ في رأسي، تلاشت فجأة بطريقة قاسية واختفت كأنها لم تكن إلا سرابًا.. وكلما كتبت بضعة سطور.. نظرت إليها فإذا بها متكلفة مصطنعة لا تعبر عن تيارات الشعور في نفسي.
أكتب.. لأنني شعرت فجأة بذلك الغليان المفاجئ في صدري والذي يقول لي: بلغتَ ذروة الألم للتو.. اكتب شيئًا ما حتى لا تتلاشى.

بعد رحلة طويلة قضيتها في التفتيش عن عيوب الحياة والكون والناس والمجتمع والتاريخ.. وعن تلك المفارقات الأليمة.. والمنعطفات القاسية.. والمنحدرات المستبدة.. والمآزق الوجودية التي لا تنتهي..
اكتشفت أنني لم أخض أعتى البحور.. ولم أقاتل في أهم معاركي وأشرسها.. وأنني كنت أؤجل يومًا بعد يوم.. العقدة الأكثر صعوبة ومصيرية في مسيرتي..
اكتشفت أنني لم أنظر بما يكفي في عيوبي الذاتية.. في مسالب نفسي.. في ضلالات روحي.. وفي مواضع نقصي..

عرفتُ أنني شُغلتُ بغربتي ووحدتي وضلالي في عالم الآخرين.. عن غربتي ووحدتي وضلالي في عالمي الخاصّ الباطني العميق.. ولربما أشغلتني عبارات المديح وأعمت بصيرتي عن نقصي..
المديح مخادع.. سلاحه الوهم.. يلقي على عينيك غشاوة جميلة..

لا أكاد أختلي بذاتي قليلًا.. حتى تتراءى لي كل ثغرات التاريخ.. تاريخي أنا هذه المرة.
كل الأخطاء تصطف أمامي وتصرخ فيّ: أنتَ المذنب، لا أحد سواك.
كل تلك المصائد التي وقعتُ في شركها كنتُ أنا من نصبها لنفسي، وكل تلك الآلام التي أشكو منها هي من صنيع يدي.

لأنني حتى الآن لم أكتشف ذاتي، ولم أعرف ما أريد..
إلى أين أسير؟ وإلى أين ينبغي أن أسير؟ من أحب؟ ومن ينبغي لي أن أحب؟
كيف أختار؟ ومتى؟ خوفي وترددي وشكي وحيرتي تسيطر على كل تفاصيلي.
لساني معقود بعقدة القلب ذاتها، وقلبي معقود بعقدة الروح ذاتها، وعقلي بات حائرًا أمام كل هذه العقد..

عن أحمد شعبان

شاهد أيضاً

الجزء الأول من قصة "كان اللقاء غريبا" للكاتبة نجمة عمر علي

الجزء الأول من قصة “كان اللقاء غريبا” للكاتبة نجمة عمر علي

بقلم نجمة عمر علي تحت سقف المطر، على عتبة مقهى، وقعت منها حقيبة يدها وانتشرت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *